السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي مَنَّ على من شاء من عباده بصفات الكمال ورفع بعضهم على بعض درجات ليبلوهم فيما أعطاهم من تلك الخصال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكبير المتعال وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليما.
أما بعد
أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أسماء الله تعالى الحكيم فاعرفوا ما له من الحِكَم البالغة في شرعه وخلقه وجزاءه فإن لله في ذلك الحكمة البالغة الصادرة عن علم تام ورحمة واسعة شرع الشرائع فأحكمها وخلق المخلوقات فأتقنها وجعل الجزاء على وِفق الحكمة دائراً بين العدل والفضل لا ظلم ولا جور، الحسنة بعشر أمثالها وأكثر. والسيئة بمثلها أو يعفو فيما دون الشرك ويغفر.
أيها الناس إن الحكمة وضع الشيء في موضعه اللائق به عيناً ووصفاً ولقد شاء الله تعالى بحكمته أن يجعل الرسالة العظمى المتضمنة للدين الأكمل والهدي الأقوم في محمد صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي الذي أكمله الله تعالى خِلقة وخُلقا وهيئهً لحمل هذه الرسالة العظمى فكان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خِلقة كان جسده متكاملاً متناسباً حسناً جميلاً فكان صلى الله عليه وسلم ربعة من الرجال ليس بالطويل البائن ولا القصير بعيد ما بين المنكبين رحب الصدر ضخم الأعضاء مع تناسبها وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً أزهر اللون مشرباً بحمرة مستديراً مع سهولة الخدين وكان صلى الله عليه وسلم أكحل العينين أدعجهما أسبغ الحواجب في غير قرن بينهما وكان صلى الله عليه وسلم دقيق الأنف أقنى العرنين وكان صلى الله عليه وسلم حسن الفم مفلج الأسنان براق الثنايا كث اللحية حسنها قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ( توفاه الله عز وجل وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء ) إنما كان شمط عند العنفقة وفي الصدغين والرأس يسيراً وكان لرأسه شعر يبلغ شحمة أذنيه أحياناً وأحياناً إلى منكبيه فكان يسدله أولاً ثم عَدل إلى تفريقه ففرقه على جانبي الرأس هذه من صفاته الخِلقية أما صفاته الخُلقية فكان أكمل الناس صلى الله عليه وسلم خلقاً في جميع محاسن الأخلاق قال الله تعالى: " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [القلم: 4] ففي كرم المال كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس يُعطي عطاءً لا تبلغه الملوك وكان عطاؤه لله تعالى وفي سبيله بمقتضى شرعه سأله رجل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين تأليفاً على الإسلام فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقه وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( ما سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال لا) وتعلقت به الأعراب يسألونه أن يقسم بينهم في رجوعه من غزوة حنين فقال صلى الله عليه وسلم : " لو كان لي عدد هذه الأظاهي أنعاماً " - أي عدد هذه الأشجار إبلاً - " لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جبانا " وكان صلى الله عليه وسلم يؤثر على نفسه فيعطي العطاء ويمضي الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار أُهديت إليه شملة فلبسها وهو محتاج إليها فسأله رجل إياها فأعطاه إياها فلامه الناس وقالوا كان محتاجاً إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلا فقال الرجل إنما سألته لتكون كفني وكان صلى الله عليه وسلم كان كرمه في محله ينفق المال لله إما في سبيل الله أو لفقير أو محتاج أو تأليفاً على الإسلام أو تشريعاً للأمة وأما كرمه بنفسه صلى الله عليه وسلم وجوده بها فقد كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأمضاهم عزماً وإقداماً كان الناس يفرون وهو ثابت قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : ( لما التقى المسلمون والكفار في غزوة حنين وولى المسلمون مدبرين طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حينئذ : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " ) وقال علي رضي الله عنه ( كنا إذا اشتد بنا البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ) وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ) لقد فزع أهل المدينة ليلاً فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُري والسيف في عنقه وهو يقول لن تراعوا ومع هذه الشجاعة العظيمة كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً لطيفاً فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ( خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ولا لشيء صنعته لما صنعته ولا لشيء تركته لما تركته ) وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويضعهم في حجره وربما بال الصبي في حجره فلا يعنف ولا يغضب وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة أصحابه لا يفرق بين دعوة الحر والعبد والغني والفقير وكان صلى الله عليه وسلم يعود مرضاه في أقصى المدينة ويشيع جنائزهم ويقبل عذر المعتذر وكان يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه وكان يحمل ابنة بنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين وهما أبناء بنته فاطمة وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما حتى وضعهما بين يديه ثم قال صدق الله ورسوله :" إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ " [التغابن: 15] نَظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما قال الحسين بن علي رضي الله عنه سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال : ( كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب يتغافل عما لا يشتهي ولا ييئس راجيه لا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير وإذا سكت تكلموا لا يتنازعون عنده الحديث ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ وكان يصبر على جفوة الغريب في منطقه ومسألته ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه -يعني يتجاوزه- أو يقطعه ) وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله تعالى بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً فاختار أن يكون عبداً نبيا وخيره الله بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين ما عند الله فاختار ما عند الله قال أنس دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحت رأسه وسادة من ادم حشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فلما انحرف النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر " قال : وما لي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى، فقال : " يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " قال : بلى، قال : " هو كذلك ) .
أيها المؤمنون، هذه درر من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوها نبراساً لكم تأتمون بها وتسيرون عليها فإن الله جبل نبيه على مكارم الأخلاق وأمرنا بالاقتداء به قال الله تعالى :" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً " [ الأحزاب: 21] اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن ترزقنا محبة هذا النبي الكريم وأن ترزقنا اتباعه حتى نلقاك يا رب العالمين " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ "[الحشر: 10].
الحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وسلطانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد ببرهانه الداعي إلى جنته ورضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقاً في هديه وسمته ودعوته إلى الله عز وجل ( دخل رجل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسجد فتقدم هذا الأعرابي إلى ناحية في المسجد فبال فيها فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه ذنوب من ماء ودعا الأعرابي فقال له : " إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر وإنما هي للصلاة والتكبير وقراءة القرآن " ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم تأمل يا أخي المسلم تأمل هذه القضية العظيمة لتكون لك نبراساً في الدعوة إلى الله فتُنزل الناس منازلهم فإذا كان الإنسان جاهلاً غريراً لا يدري فلا تعامله بالعنف ولكن عامله باللطف واللين فإنك إذا فعلت ذلك ملكت قلبه ولكنك إذا عاملته بالعنف والزجر فإن ذلك يوجب تنفيره عن الدعوة ويوجب كراهة ما تقول له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يزجروا هذا الأعرابي وهو يبول في المسجد ولكنه لما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة المفسدة بصب الماء على البول حتى يَطهر المكان ودعا هذا الأعرابي فعلمه بلين ولطف حتى مَلك قلبه وصار ذلك صِبغة في قلبه لا ينساه أبداً وقضية أخرى جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، هلكت، قال: " ما أهلكك " قال وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم جاء هذا الرجل معترفاً بذنبه يريد الخلاص مما هو عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أعتق رقبة " فقال : لا أجد فقال : " هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين " قال : لا أستطيع، فقال : " هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً " قال : لا أستطيع، ثم جلس الرجل وجئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " خذ هذا التمر فتصدق به " يعني على ستين مسكيناً فقال الرجل رضي الله عنه أعلى أفقر مني فو الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال للرجل : " خذ هذا التمر فأطعمه أهلك " هذا الرجل الذي جامع زوجته في رمضان وهو صائم إنه لذنب عظيم ولهذا وجبت فيه الكفارة المغلظة وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ولكن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جبله الله على مكارم الأخلاق أخبره بشريعة الله من غير عنف ومن غير صخب ومن غير زجر ومن غير انتهار ولكنه أخبره بشرع الله عز وجل ثم إن هذا الرجل لم يرجع حتى أخذ طعاماً معه إلى أهله هذه والله هي الأخلاق وهذه هي الدعوة التي تجذب القلوب إلى الداعي فعلينا أيها الإخوة أن نتخذ من مِثل هذه القضايا التي وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نتخذ منها دليلاً على الدعوة إلى الله وكيف نملك قلوب الخلق أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله عز وجل وكونوا دعاة إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كونوا أعواناً على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واعلموا أن الله عز وجل يعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف وأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه واعلموا "أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار" واعلموا أن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الرفق في الدعوة إلى الله وتنزيل الناس منازلهم ولكن إذا كان الإنسان معانداً مكابرا فإنه يقابل بما تقتضيه معاندته ومكابرته ويجازى بالذي يستحقه ولهذا قال الله تعالى:" وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ "[العنكبوت: 46] ففرق بين الظالمين وغير الظالمين ورأى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من أصحابه خاتماً من ذهب فقال : " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده " ثم أخرج النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم بيده فطرحه في الأرض ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فقيل للرجل خذ خاتمك انتفع به فقال والله لا أخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلم ) فهذا الرجل غير النبي صلى الله عليه وسلم منكره بيده وأخذ خاتمه ورمى به على الأرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيماً يُنزل كل إنسان منزلته .
أيها المسلمون أكثروا من الصلاة والسلام على النبي يعظم الله لكم بها أجراً فإن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطنا اللهم توفنا على ملته واحشرنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته واسقنا من حوضه وأجمعنا به في جنات النعيم يا رب العالمين " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [الأعراف : 23].
عباد الله " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ "[النحل: 90-91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم " وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ "[العنكبوت: 45].
الشيخ محمد بن العثيمين ـ رحمه الله ـ